
العملات الرقمية في جوهرها ليست فكرة معقّدة؛ هي ببساطة أموال رقمية مصمّمة لتتحرك عبر الإنترنت دون الحاجة إلى البنوك كوسيط. بدل أن يحتفظ بنك واحد بسجل المعاملات، يتم تسجيل كل حركة على قاعدة بيانات عامة ومشتركة تُسمّى البلوكتشين. هذا النموذج يقلّل الوقت والتكلفة ويجعل نقل الأموال عبر الحدود أسهل بكثير من النظام المالي التقليدي. كانت بيتكوين أول تطبيق عملي لهذه الفكرة، ثم ظهرت آلاف الأصول الرقمية التي تحاول تطوير طريقة انتقال القيمة في العالم الرقمي.
ضمن هذا النظام تأتي باينانس، وهي أكبر منصة تداول عملات رقمية في العالم. دورها يشبه البورصة العالمية، لكن بدل الأسهم يتم تداول العملات الرقمية. المنصة تخدم أكثر من مئة مليون مستخدم حول العالم، وتوفّر لهم الشراء والبيع والحفظ والتحويل. المشكلة التاريخية لم تكن في التقنية نفسها، بل في غياب القوانين الواضحة. عندما تعمل المنصات بلا تنظيم، تظهر مخاطر مثل سوء إدارة أموال المستخدمين أو الانهيارات المفاجئة، كما حدث في حالات معروفة سابقًا. لذلك، التنظيم ليس عائقًا أمام العملات الرقمية، بل هو الشرط الأساسي لبناء الثقة على نطاق واسع.
هنا تبرز أهمية ما حدث في أبوظبي. حصول باينانس على ترخيص عالمي كامل من سوق أبوظبي العالمي (ADGM) ليس خطوة شكلية، لأن هذا السوق يُعد من أكثر الجهات التنظيمية صرامة واحترامًا على مستوى العالم. هذا الترخيص يعني أن العملات الرقمية أصبحت جزءًا معترفًا به من النظام المالي، يخضع لقواعد واضحة تشبه تلك المفروضة على البنوك والمؤسسات المالية الكبرى. وبذلك تستطيع باينانس العمل وبناء بنيتها التحتية من الإمارات ضمن إطار قانوني مستقر.
اختيار أبوظبي لم يكن صدفة. دولة الإمارات لديها رؤية طويلة المدى لما بعد النفط، وتسعى لتكون مركزًا عالميًا للتمويل والتقنية والذكاء الاصطناعي والأصول الرقمية. ما يميزها هو وضوح القوانين وسرعة اتخاذ القرار والاستقرار التشريعي. الشركات المالية الكبرى لا تستطيع النمو في بيئات غامضة، بل تبحث عن دول تعرف بالضبط ما تريد، وتوفّر قواعد واضحة يمكن البناء عليها، وهذا ما تقدّمه أبوظبي.
بالنسبة للإمارات، النتائج عملية وواضحة. وجود منصة عالمية مرخّصة يعني وظائف عالية المهارة، تدفقات رأسمالية، واندماجًا أعمق بين البنوك التقليدية والبنية التحتية الرقمية. بدل محاربة العملات الرقمية، يتم استيعابها وتنظيمها، فتصبح أكثر أمانًا وأقل مخاطرة وأكثر استخدامًا في الحياة اليومية. وعندما يصبح النظام “مملًا” ومنظمًا، فهذا يعني أنه وصل إلى مرحلة النضج الحقيقي.
أما على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالأثر أعمق. تاريخيًا، واجهت كثير من دول المنطقة صعوبة في الوصول للنظام المالي العالمي، وارتفاع تكاليف التحويلات، وضعف بعض العملات المحلية. مع وجود الإمارات كمركز منظم، يصبح الوصول إلى المدفوعات السريعة، والعملات المستقرة، والأسواق العالمية أسهل للأفراد والشركات في المنطقة. هذا ليس وعودًا نظرية، بل تغيير فعلي في البنية التحتية المالية.
النقطة التي يغفل عنها معظم الناس هي أن القصة لا تتعلق بباينانس بحد ذاتها. ما يحدث هو منافسة بين الدول على استضافة النظام المالي القادم. عندما تتحول الأموال إلى ما يشبه “البرمجيات”، فإن الدول التي تنظّم مبكرًا تستحوذ على الشبكات ورأس المال والعقول. تمامًا كما أصبحت لندن مركزًا للتمويل التقليدي، ووادي السيليكون مركزًا للتقنية، تحاول الإمارات أن تتموضع كمركز عالمي للتمويل الرقمي المنظم.
الفكرة الأهم هنا أن التنظيم لا يقتل الابتكار، بل ينقّيه. يخرج اللاعبون الضعفاء، وتبقى المشاريع الجادة القادرة على الاندماج في الاقتصاد الحقيقي. ترخيص باينانس في أبوظبي يمثل اللحظة التي تتوقف فيها العملات الرقمية عن كونها تجربة محفوفة بالمخاطر، وتبدأ بالتحول إلى بنية مالية حقيقية. والسؤال الذي يستحق التفكير: إذا كانت الأموال تتحول إلى برمجيات، والدول تتنافس كمنصات، فمن سيسيطر على نظام المال العالمي في الثلاثين سنة القادمة، ومن سيضطر لاستخدامه فقط؟

